كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



دلت هذه الآية على أمور منها، أن الفروج لا تستباح إلا بصداق ملزم، سواء سمّي ذلك في العقد أو لم يسمّ.
وأن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع، لأنّ اللّه تعالى جعل منافع النكاح:
من قضاء الشهوة، والتوالد، مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر، فكان ذلك عطية من اللّه ابتداء.
وأنه يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها، أو جزءا منه، سواء أكان مقبوضا معينا، أم كان في الذمة، فشمل ذلك الهبة والإبراء، وأنه ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم، حيث بني الشرط على طيب النفس، فقال: {فَإِنْ طِبْنَ} ولم يقل: فإن وهبن إعلاما بأنّ المراعى في ذلك هو تجافيها عن المعطى طيّبة به نفسها، من غير أن يكون السبب فيه شراسة خلق الزوج، أو سوء معاشرته.
وأنه يحلّ للزوج أخذ ما وهب زوجته بالشرط السابق من غير أن يكون عليه تبعة في الدنيا والآخرة.
واحتج الجصاص بقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة، ولو طلّقت قبل المساس، وأنت تعلم أنّ هذه الآية عامة في كل النساء بسواء المخلوّ بها وغيرها، إلّا أنّ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] يدل على أنه لا يجب للمخلوّ بها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصّة، ولا شك أن الخاصّ مقدم على العام، فالخلوة الصحيحة لا تقرّر المهر كلّه.
قال اللّه تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} أصل السفه: الخفة والحركة. يقال تسفّهت الريح الشجر إذا أمالته، والمراد به هنا خفّة الأحلام، واضطراب الآراء، ومن معاني القيام الانتصاب على القدمين، والاعتدال، وما يعاش به، وهذا الأخير هو المناسب هنا.
واختلف المفسّرون في تعيين المخاطبين بقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها: أن المخاطبين هم أولياء اليتامى، والسفهاء هم اليتامى مطلقا، أو المبذرون بالفعل، والأموال أموالهم، لا أموال الأولياء، وعليه يكون ذكر هذه الآية الكريمة رجوعا لبيان شيء من الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى، وتفصيلا لما أجمل فيما سبق، ويكون ذكر الأحكام المتعلقة بنكاح الأجنبيات ومهورهنّ وهبتهنّ استطرادا، وإنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء المخاطبين مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لما بين الولي واليتيم من الاتحاد في الجنس والنسب، ونظيره قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا، إلّا أنّه عبّر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل، حتى كأنّ قتلهم قتل أنفسهم، وعلى هذا القياس قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا} إذ عبّر عن جعل الأموال مناطا لمعاش اليتامى بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب عكرمة وابن جبير وكثير من متأخري المفسرين.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه عنهم أنّ الخطاب لكلّ عاقل من الناس جميعا، وأنّ المراد من السفهاء النساء والصبيان، والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء، وعليه تكون إضافة الأموال إلى ضمير المخاطبين على حقيقتها.
وقيل: المراد من السفهاء النساء خاصة، سواء أكنّ أزواجا أم أمهات أم بنات.
وقيل: إنّ السفهاء عامّ في كلّ من ليس له عقل يفي بحفظ المال وحسن التصرف فيه، ويدخل فيه الصبيّ والمجنون والمحجور عليه للتبذير.
وعلى أي تأويل ترى في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا} دلالة على النهي عن تضييع المال، ووجوب حفظه وتدبيره، وحسن القيام عليه، حيث قد جعله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور، وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن.
وقال بعضهم: لأن أترك مالا يحاسبني اللّه عليه خير من أن أحتاج إلى الناس.
وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنّه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال.
وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي إن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم: من استغنى فقد كرم على أهله، وكانوا يقولون: اتّجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم فيه كان أول ما يأكل دينه.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} أي اجعلوا أموالكم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتّجروا فيها حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل (منها) لكان الإنفاق من نفس المال.
وفي الآية دلالة على وجوب الحجر على المبذّرين من وجهين:
أحدهما: منعهم من أموالهم:
والثاني: إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم، وشراء أقواتهم وكسوتهم.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل فهو معروف، وكل ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقلا فهو منكر، فالمراد بالقول المعروف هنا الكلام الذي تطيب به نفوسهم، كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي، وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك.
وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرفه أنّ المال ماله. وهو خازن له، وأنه إذا كبر ردّ إليه ماله، وإن كان سفيها وعظه ونصحه، وحثّه على الطاعة، ونهاه عن التبذير والإسراف، وعرّفه أنّ عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.
قال اللّه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} الابتلاء: الاختبار.
المراد ببلوغ النكاح هنا وبلوغ الحلم المذكور في قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] الوصول إلى حد البلوغ، وهو حد التكليف، والتزام الأحكام، وذلك إما أن يكون بالاحتلام أو الحيض أو بالسن كما هو معروف في كتب الفقه.
وأصل الإيناس النظر إلى ما يؤنس به من بعد مع وضع اليد على العين، وقيل: أصله الإبصار مطلقا، وقيل: الإحساس، وعلى كل فالمراد به هنا التبيّن: أي علم الرشد بيّنا، والرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال فقط، أو مع صلاح الدين، وإذا متمحضة للظرفية أو شرطية وجوابها الجملة الشرطية بعدها.
لمّا أمر اللّه بإيتاء أموالهم على الإطلاق بقوله: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} شرع في تعيين وقت تسليمهم أموالهم، وبيان شرط ذلك الدفع، فأمر الأولياء باختبار اليتامى في عقولهم وأحوالهم حتّى إذا علموا منهم بعد البلوغ أنّ لهم فهما وعقلا وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد دفعوا إليهم أموالهم.
واتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على أنّ هذا الاختبار يكون قبل البلوغ وتشهد لهما الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ.
وفرّع أبو حنيفة على ذلك أنّ تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، لأنّ ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا، وذلك يقتضي صحة التصرف، وقال الشافعي: الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف، ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار دون التصرف، على حسب ما يليق بحال الصبي، فابن التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد، وحينئذ يعقد الولي إن أراد، وعلى هذا القياس.
وأنت خبير بأنّه لو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي، لأنّ المعنى الذي من أجله منع عنه ماله هو بعينه يقتضي عدم صحة تصرفه.
وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه، ودفعه إليه موقوف على شرطين: بلوغه، ثم رشده.
وظاهر قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} أنه لا تدفع أموالهم إليهم، ولو بلغوا، ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الشافعي، وقول الصاحبين، وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط، ما لم يؤنس منه رشد، ونسب هذا القول للشعبي.
وقال الإمام أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه رشد، وتقدم احتجاجه على ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ}.
ونزيد على ما تقدّم أن الجصاص وصاحب الكافي قالا في الاحتجاج لمذهب الإمام: إنّ الشرط (رشد) نكرة، فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأوّل أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا، وإذا امتدّ الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا، وحدث ضرب من الرشد لا محالة.
وأنت تعلم أنّه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كان الدفع حينئذ عن إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي والصاحبين- فلا يصحّ أن يقال: إنّ مذهب الإمام وجوب دفع المال إلى اليتيم بعد الخمس والعشرين سنة، سواء أونس منه رشد أم لا، بل يكون الخلاف بين الإمام وغيره في تعيين الرشد الذي اعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا هو؟
وذلك أمر آخر وراء ما نقل عن الإمام في هذه المسألة: على أنه إن أريد بهذا الضرب من الرشد الرشد في مصلحة المال، فكونه لابد أن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو يكاد يكون مصادمة للآية، لأنها كالصريحة في اشتراط الرشد في ضبط الأموال ورعايتها، ألا ترى أن الابتلاء المأمور به في أول الآية هو ابتلاؤهم فيما يتعلق بحفظ المال ورعايته، وقد قال اللّه تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا} إلخ فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشدا في رعاية مصالح المال، لا ضربا من الرشد كيفما كان، وإلا تفكك النّظم، وضاع انسجام الكلام.
ومخالف الإمام يقوّي الاستدلال بالآية على مذهبه بالقياس الجلي، وذلك أن الصبيّ إنما منع منه ماله لفقدان العقل الهادي إلى حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائما بالشيخ والشاب كانا في حكم الصبي، فوجب أن يمنع دفع المال إليهما ما لم يؤنس منهما الرشد.
قال صاحب روح المعاني من الحنفية: ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنّع ابن حزم- ودأبه التشنيع على الأئمة- على أبي حنيفة رضي اللّه عنه، مع أنّ من تدبر ما ذهب إليه الإمام علم أن نظره في ذلك دقيق، لأن اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال، واعتبر إيمانه وكفره، وسلّم اللّه إليه نفسه يتصرف فيها حسب اختياره، كان منع ماله عنه أشبه شيء بالظلم، وهذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ فورا، إلا أنّنا أخّرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب، ورجاء الرشد والكف عن السفه، وما فيه من تبذير المال وفساده.
وسنّ البلوغ ثمانية عشر سنة زيد عليها سبع سنوات، لأنها مدة معتبرة شرعا في تغيير الأحوال، إذ الطفل يميّز بعدها، ويؤمر بالصلاة كما في الحديث، وبانضمامها إلى سن البلوغ يكمل لبّه، ويبلغ أشدّه، ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذه السن، فإذا بلغ هذه السن، ولم يتأدب: انقطع عنه الرجاء غالبا.
{وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.
الإسراف: مجاوزة الحدّ المباح إلى ما لم يبح.
والبدار: المسارعة، والمفاعلة بمعنى أصل الفعل، أو على أنها بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم، واليتيم يبادر نزعه.